فصل: قال الألوسي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الألوسي:

{وَوَهَبْنَا لِداود سليمان نِعْمَ العبد} وقرئ {نِعْمَ} على اوصل، والمخصوص بالمدح محذوف أي نعم العبد هو أي سليمان كما ينبىء عنه تأخيره عن داود مع كونه مفعولًا صريحًا لوهبنا ولأن قوله تعالى: {إِنَّهُ أَوَّابٌ} أي رجاع إلى الله تعالى بالتوبة كما يشعر به السياق أو إلى التسبيح مرجع له أو إلى مرضاته عز وجل تعليل للمدح وهو من حاله لما أن الضمير المجرور في قوله سبحانه: {إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ} يعود إليه عليه السلام قطعًا، وإذ منصوب باذكر، والمراد من ذكر الزمان ذكر ما وقع فيه أو ظرف لأواب أو لنعم والظرف قنوع لكن يرد على الوجهين أن التقييد يخل بكمال المدح فالأول أولى وهو كالاستشهاد على أنه أواب أي اذكر ما صدر عنه إذ عرض عليه {بالعشى} الخ فإنه يشهد بذلك، والعشي على ما قال الراغب من زوال الشمس إلى الصباح، وقال بعض: منه إلى آخر النهار، والظرفان متعلقان بعرض، وقوله تعالى: {الصافنات} نائب الفاعل وتأخيره عنهما لما مر غير مرة من التشويق إلى المؤخر، والصافن من الخيل الذي يرفع إحدى يديه أو رجليه ويقف على مقدم حافرها وأنشد الزجاج:
ألف الصفون فما يزال كأنه ** مما يقوم على الثلاث كثيرًا

وقال أبو عبيدة: هو الذي يجمع يديه ويسويهما وأما الذي يقف على طرف الحافر فهو المتخيم، وعن التهذيب ومتن اللغة هو المخيم، وقال القتبي الصافن الواقف في الخيل وغيرها، وفي الحديث «من سره أن يقوم الناس له صفونا فليتبوأ مقعده من النار» أي يديمون له القيام حكاه قطرب وأنشد للنابغة:
لنا قبة مضروبة بفنائها ** عتاق المهاري والجياد الصوافن

وقال الفراء: رأيت العرب على هذا وأشعارهم تدل على أنه القيام خاصة والمشهور في الصفوف ما تقدم وهو من الصفات المحمودة في الخيل لا تكاد تتحقق إلا في العرب الخلص {الجياد} جمع جواد للذكر والأنثى يقال جاد الفرس صار رائضًا يجود جودة بالضم وهو جواد ويجمع أيضًا على أجواد وأجاويد، وقال بعضهم: هو جمع جود كثوب وأثواب وفسر بالذي يسرع في مشيه، وقيل هو الذي يجود بالركض، وقيل: وصفت بالصفون والجودة لبيان جمعها بين الوصفين المحمودين واقفة وجارية أي إذا وقفت كانت ساكنة مطمئنة في مواقعها وإذا جرت كانت سراعًا خفافًا في جريها، والخيل تمدح بالسكون في الموقف كما تمدح بالسرعة في الجري، ومن ذلك قول مسلم بن الوليد:
وإذا احتبى قربوسه بعنانه ** علك الشكيم إلى انصراف الزائر

وقيل جيد ككيس ضد الردىء ويجمع على جيادات وجيائد، وضعف بأنه لا فائدة في ذكره مع {الصافنات} حينئذٍ وبأنه يفوت عليه مدح الخيل باعتبار حاليها وكون الجياد أعم فذكره تعميم بعد تخصيص فيه نظر.
وفي البحر قيل الجياد الطوال الأعناق من الجيد وهو العنق، وأنا في شك من ثبوته، قال في القاموس: الجيد بالكسر العنق أو مقلده أو مقدمه جمعه أجياد وجيود وبالتحريك طولها أو دقتها مع طول وهو أجيد وهي جيداء وجيدانة جمعه جود اه، وراجعت غيره فلم أجد فيه زيادة على ذلك فلينقر، ويمكن أن يقال: أن الجياد جمع شاذ لأجيد أو جيداء أو جيدانة أو هو جمع لجيد بالتحريك كجعل وجمال ويراد بجيد أجيد أو نحوه نظير ما يراد بالخلق المخلوق والله تعالى أعلم، وأيًّا ما كان فالوصفان يوصف بهما المذكر والمؤنث من الخيل، والجمع بألف وتاء لا يخص المؤنث فلا حاجة بعد القول بأن ما عرض كان مشتملًا على ذكور الخيل وإناثها إلى القول بأن في الصافنات تغليب المؤنث على المذكر وأنه يجوز بقلة، وأريد بالجمع هنا الكثرة فعن الكلبي أن هذه الخيل كانت ألف فرس غزا سليمان عليه السلام دمشق ونصيبين فأصابها.
واستشكلت هذه الرواية بأن الغنائم لم تحل لغير نبينا صلى الله عليه وسلم كما ورد في الحديث الصحيح.
وأجيب بأنه يحتمل أن تكون فيئًا لا غنيمة، وعن مقاتل أنها ألف فرس ورثها من أبيه داود وكان عليه السلام قد أصابها من العمالقة وهم بنو عمليق بن عوص بن عاد بن إرم.
واستشكلت هذه زيادة على الأولى بأن الأنبياء عليهم السلام لا يورثون كما جاء في الحديث الذي رواه أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه محتجًا به في مسألة فدك والعوالي بمحضر الصحابة وهم الذين لا تأخذهم في الله لومة لائم.
وأجيب بأن المراد بالإرث حيازة التصرف لا الملك، وعقرها تقربًا على ما في الأوجه في الآية بعد وجاء في بعض الروايات لا يتقضي الملك، وقال عوف: بلغني أنها كانت خيلًا ذات أجنحة أخرجت له من البحر لم تكن لأحد قبله ولا بعده، وروي كونها كذلك عن الحسن، وأخرج ابن جرير وغيره عن إبراهيم التيمي أنها كانت عشرين ألف فرس ذات أجنحة، وليس في هذا شيء سوى الاستبعاد، وإذا لم يلتفت إلى الأخبار في ذلك إذ ليس فيها خبر صحيح مرفوع أو ما في حكمه يعول عليه فيما أعلم فلنا أن نقول: هي خيل كانت له كالخيل التي تكون عند الملوك وصلت إليه بسبب من أسباب الملك فاستعرضها فلم تزل تعرض عليه حتى غربت الشمس، قيل وغفل عن صلاة العصر، وحكى هذا الطبرسي عن علي كرم الله تعالى وجهه، وقتادة، والسدي ثم قال: وفي روايات أصحابنا أنه فات أول الوقت.
وقال الجبائي: لم يفته الفرض وإنما فاته نفل كان يفعله آخر النهار.
{فَقَالَ إِنّى أَحْبَبْتُ حُبَّ الخير عَن ذِكْرِ رَبِى} قاله عليه السلام اعترافًا بما صدر عنه من الاشتغال وندمًا عليه وتمهيدًا لما يعقبه من الأمر بردها وعقرها على ما هو المشهور، والخير كثر استعماله في المال ومنه قوله تعالى: {إِن تَرَكَ خَيْرًا} [البقرة: 180] وقوله سبحانه: {وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ الله بِهِ عَلِيمٌ} [البقرة: 273] وقوله عز وجل: {وَإِنَّهُ لِحُبّ الخير لَشَدِيدٌ} [العاديات: 8] وقال بعض العلماء: لا يقال للمال خير حتى يكون كثيرًا ومن مكان طيب كما روي أن عليًا كرم الله تعالى وجهه دخل على مولى له فقال: ألا أوصي يا أمير المؤمنين؟ قال، لا لأن الله تعالى يقول: {إِن تَرَكَ خَيْرًا} وليس لك مال كثير، وروى تفسيره بالمال هنا عن الضحاك، وابن جبير، وقال أبو حيان: يراد بالخير الخيل والعرب تسمى الخيل الخير، وحكي ذلك عن قتادة والسدي، ولعل ذلك لتعلق الخير بها، ففي الخبر «الخيل معقود بنواصيها الخير إلى يوم القيامة» والأحباب على ما نقل عن الفراء مضمن معنى الإيثار وهو ملحق بالحقيقة لشهرته في ذلك، وظاهر كلام بعضهم أنه حقيقة فيه فهو مما يتعدى بعلى لكن عدى هنا بعن لتضمينه معنى الإنابة {وَحَبَّ الخير} مفعول به أي آثرت حب الخير منيبًا له عن ذكر ربي أو أنبت حب الخير عن ذكر ربي مؤثرًا له.
وجوز كون {حُبَّ} منصوبًا على المصدر التشبيهي ويكون مفعول {أَحْبَبْتُ} محذوفًا أي أحببت الصافنات أو عرضها حبًا مثل حب الخير منيبًا لذلك عن ذكر ربي، وليس المرادب الخير عليه الخيل وذكر أبو الفتح الهمداني أن أحببت بمعنى لزمت من قوله:
ضرب بعير السوء إذ أحبا

واعترض بأن أحب بهذا المعنى غريب لم يرد إلا في هذا البيت وغرابة اللفظ تدل على اللكنة وكلام الله عز وجل منزه عن ذلك، مع أن اللزوم لا يتعدى بعن إلا إذا ضمن معنى يتعدى به أو تجوز به عنه فلم يبق فائدة في العدول عن المعنى المشهور مع صحته أيضًا بالتضمين وجعل بعضهم الأحباب من أول الأمر بمعنى التقاعد والاحتباس وحب الخير مفعولًا لأجله أي تقاعدت واحتبست عن ذكر ربي لحب الخير.
وتعقب بأن الذي يدل عليه كلام اللغويين أنه لزوم عن تعب أو مرض ونحوه فلا يناسب تقاعد النشاط والتلهي الذي كان عليه السلام فيه وقول بعض الأجلة: بعد التنزل عن جواز استعمال المقيد في المطلق لما كان لزوم المكان لمحبة الخيل على خلاف مرضاة الله تعالى جعلها من الأمراض التي تحتاج إلى التداوي بأضدادها ولذلك عقرها ففي {أَحْبَبْتُ} استعارة تبعية لا يخفى حسنها ومناسبتها للمقام ليس بشيء لخفاء هذه الاستعارة نفسها وعدم ظهور قرينتها، وبالجملة ما ذكره أبو الفتح مما لا ينبغي أن يفتح له باب الاستحسان عند ذوي العرفان، وجوز حمل {أَحْبَبْتُ} وجوز في عن كونها تعليلية وسيأتي إن شاء الله تعالى و{ذُكِرَ} مضاف إلى مفعوله وجوز أن يكون مضافًا إلى فاعله.
وقيل الإضافة على معنى اللام ولا يراد بالذكر المعنى المصدري بل يراد به الصلاة فمعنى عن ذكر ربي عن صلاة ربي التي شرعها وهو كما ترى.
وبعض من جعل عن للتعليل فسر ذلك الرب بكتابه عز وجل وهو التوراة أي أحببت الخيل بسبب كتاب الله تعالى وهو التوراة فإن فيه مدح ارتباطها وروي ذلك عن أبي مسلم، وقرأ أبو جعفر ونافع وابن كثير وأبو عمرو {إِنّى أَحْبَبْتُ} بفتح الياء {حتى تَوَارَتْ بالحجاب} متعلق بقوله تعالى: {أَحْبَبْتُ} باعتبار استمرار المحبة ودوامها حسب استمرار العرض أي أنبت حب الخير عن ذكر ربي واستمر ذلك حتى غربت الشمس تشبيهًا لغروبها في مغربها بتواري المخباة بحجابها على طريق الاستعارة التبعية، ويجوز أن يكون هناك استعارة مكنية تخييلية وأيًّا ما كان فما أخرجه ابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن كعب، قال: الحجاب هو حجاب من ياقوت أخضر محيط بالخلائق منه اخضرت السماء، وما قيل إنه جبل دون قاف بسنة تغرب الشمس وراءه لا يخفى حاله، والناس في ثبوت جبل قاف بين مصدق ومكذب والقرافي يقول لا وجود له وإليه أميل وإن قال المثبتون ما قالوا، والباء للظرفية أو الاستعانة أو الملابسة، وعود الضمير إلى الشمس من غير ذكر لدلالة العشي عليها، والضمير المنصوب في قوله تعالى: {رُدُّوهَا عَلَىَّ} للصافنات على ما قال غير واحد.
وظاهر كلامهم أنه للصافنات المذكور في الآية، ولعلك تختار أنه للخيل الدال عليها الحال المشاهدة أو الخير في قوله: {إِنّى أَحْبَبْتُ حُبَّ الخير} [ص: 32] لأن ردوها من تتمة مقالته عليه السلام والصافنات غير مذكورة في كلامه بل في كلام الله تعالى لنبينا صلى الله عليه وسلم، والكلام على ما قال الزمخشري على إضمار القول أي قال ردوها عليّ، والجملة مستأنفة استئنافًا بيانيًا كأنه قيل: فماذا قال سليمان؟ فقيل قال: ردوها، وتعقبه أبو حيان بأنه لا يحتاج إلى الإضمار إذ الجملة مندرجة تحت حكاية القول في قوله تعالى: {فَقَالَ إِنّى} [ص: 32] الخ؛ والفاء في قوله تعالى: {فَطَفِقَ مَسْحًا} فصيحة مفصحة عن جملة قد حذفت ثقة بدلالة الحال عليها وإيذانًا بغاية سرعة الامتثال بالأمر كما في قوله تعالى: {فَقُلْنَا اضرب بّعَصَاكَ الحجر فانفجرت مِنْهُ اثنتا عَشْرَةَ عَيْنًا} [البقرة: 60] أي فردوها عليه فطفق الخ وطفق من أفعال الشروع واسمها ضمير سليمان و{مَسْحًا} مفعول مطلق لفعل مقدر هو خبرها أي شرع يمسح مسحًا لا حال مؤول بماسحًا كما جوزه أبو البقاء إذ لابد لطفق من الخبر وليس هذا مما يسد الحال فيه مسده، وقرأ زيد بن علي {مساحا} على وزن قتال {مَسْحًا بالسوق والاعناق} أي بسوقها وأعناقها على أن التعريف للعهد وإن أل قائمة مقام الضمير المضاف إليه، والباء متعلقة بالمسح على معنى شرع يمسح السيف بسوقها وأعناقها، وقال: جمع هي زائدة أي شرع يمسح سوقها وأعناقها بالسيف، ومسحته بالسيف كما قال الراغب: كناية عن الضرب.
وفي الكشاف يمسح السيف بسوقها وأعناقها يقطعها تقول مسح علاوته إذا ضرب عنقه ومسح المسفر الكتاب إذا قطع أطرافه بسيفه، وعن الحسن كسف عراقيبها وضرب أعناقها أراد بالكسف القطع ومنه الكسف في ألقاب الزحاف والعروض ومن قاله بالشين المعجمة فمصحف، وكون المراد القطع قد دل عليه بعض الأخبار.
أخرج الطبراني في الأوسط والإسمعيلي في معجمه وابن مردويه بسند حسن عن أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في قوله تعالى: {فَطَفِقَ مَسْحًا بالسوق والاعناق} قطع سوقها وأعناقها بالسيف، وقد جعلها عليه السلام بذلك قربانًا لله تعالى وكان تقريب الخيل مشروعًا في دينه، ولعل كسف العراقيب ليتأتى ذبحها بسهولة، وقيل: إنه عليه السلام حبسها في سبيل الله تعالى وكان ذلك المسح الصادر منه وسما لها لتعرف أنها خيل محبوسة في سبيل الله تعالى وهو نظير ما يفعل اليوم من الوسم بالنار ولا بأس به في شرعنا ما لم يكن في الوجه، ولعل عليه السلام رأى الوسم بالسيف أهون من الوسم بالنار فاختاره أو كان هو المعروف في تلك الإعصار بينهم، ويروى أنه عليه السلام لما فعل ذلك خر له الريح كرامة له، وقيل: إنه عليه السلام أراد بذلك إتلافها حيث شغلته عن عبادة ربه عز وجل وصار تعلق قلبه بها سببًا لغفلته، واستدل بذلك الشبلي قدس سره على حل تحريق ثيابه بالنار حين شغلته عن ربه جل جلاله؛ وهذا قول باطل لا ينبغي أن يلتفت إليه وحاشا نبي الله أن يتلف مالًا محترمًا لمجرد أنه شغل به عن عبادة وله سبيل لأن يخرجه عن ملكه مع نفع هو من أجل القرب إليه عز وجل على أن تلك الخيل لم يكن عليه السلام اقتناها واستعرضها بطرًا وافتخارًا معاذ الله تعالى من ذلك وإنما اقتناها للانتفاع بها في طاعة الله سبحانه واستعرضها للتطلع على أحوالها ليصلح من شأنها ما يحتاج إلى إصلاح وكل ذلك عبارة فغاية ما يلزم عليه السلام نسى عبادة لشغله بعبادة أخرى فاستدلال الشبلي قدس سره غير صحيح، وقد نبه أيضًا على عدم صحته عبد الوهاب الشعراني من السادة الصوفية في كتابه اليواقيت والجواهر في عقائد الأكابر ولكن بحمل الآية على محمل آخر، وما ذكرناه في محمولها وتفسيرها هو المشهور بين الجمهور ولهم فيها كلام غير ذلك فقيل ضمير {رُدُّوهَا} للشمس والخطاب للملائكة عليهم السلام الموكلين بها، قالوا: طلب ردها لما فاته صلاة العصر لشغله بالخيل فردت له حتى صلى العصر، وروى هذا القول عن علي كرم الله تعالى وجهه كما قال الخفاجي